فصل: تفسير الآية رقم (106):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال السيوطي:

الرحمة وردت على وجوه:
1- الإسلام: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}.
2- والإيمان: {وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ}.
3- والجنة: {فَفِي رَحْمَةِ الله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
4- والمطر: {بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}.
5- والنعمة: {وَلَوْلَا فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ}.
6- والنبوة: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ}، {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ}.
7- والقرآن: {قل بفضل الله وبرحمته}.
8- والرزق: {خزائن رحمة ربي}.
9- والنصر والفتح: {إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة}.
10- والعافية: {أو أرادني برحمة}.
11- والمودة رأفة ورحمة: {رحماء بينهم}.
12- والسعة: {تخفيف من ربكم ورحمة}.
13- والمغفرة: {كتب على نفسه الرحمة}.
14- والعصمة: {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ}: في {من} قولان:
أحدهما: أنها للتعبيض، فتكون هي ومجرورها في محلّ نصب على الحال، وتعلّق بمحذوف أي: ما يودّ الذين كفروا كائنين من أهل الكتاب.
والثاني: أنها لبيان الجنس، وبه قال الزمخشري؛ لأن {الذين كفروا} جنس تحته نوعان أهل الكتاب والمشركون بدليل قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين} [البينة: 1].
قوله: {وَلاَ المُشْرِكِينَ} عطف على أهل المجرور بمن ولا زائدة للتوكيد؛ لأن المعنى: {ما يود الذين كفورا من أهل الكتاب والمشركين} كقوله: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين} [البينة: 1] بغير زيادة لا.
وزعم بعضهم أنه مخفوض على الجوار، وأن الأصل ولا المشركون، عطفًا على الذين، وإنما خفض للمجاورة، نحو {بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] في قراءة الجر، وليس بواضح.
وقال النحاس: ويجوز: ولا المشركون بعطفه على الذين وقال أبو البقاء رحمه الله: وإن كان قد قرئ: {وَلاَ المُشْرِكُونَ} بالرفع فهو عطف على الفاعل، والظاهر أنه لم يقرأ بذلك وهذان القولان يؤيدان ادّعاء الخفش على الجوار.
قوله: {أنْ يُنَزّلَ} ناصب ومنصوب في تأويل مصدر مفعول ب {يودّ} أيى: ما يود إنزاله من خير، وبني الفعل للفعول للعمل بالفاعل؛ وللتصيح به في قوله: {مِنْ ربِّكُمْ}، وأتي بما في النفي دون غيرها؛ لأنها لنفي الحال، وهم كانوا متلبّسين بذلك.
قال القُرْطبي: و{أن} في موضع نصب، أي بأن ينزل.
قوله: {مِنْ خَيْرٍ} هذا هو القائم مقام الفاعل، و{من} زائدة، أي: أن ينزل خير من ربكم.
وحسن زيادتها هنا، وإن كان {ينزل} لم يباشره حرف النفي؛ لانسحاب النفي عليه من حيث المعنى؛ لأنه إذا نفيت الوَدَادَة انتفى متعلّقها، وهذا له نظائر في كلامهم نحو: ما أظن أحدًا يقول ذلك إلاّ زيد برفع زيد بدلًا من فاعل يقول وإن لم يباشر النفي، لكنه قوة: ما يقول أحد ذلك إلاَّ زيد في ظني.
وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ} [الأحقاف: 33] زيدت الباء؛ لأنه في معنى: أو ليس الله بقادر، وهذا على رأي سيبويه وأتباعه.
وأما الكوفيّون والأخفش فلا يحتاجون إلى شيء من هذا.
وقيل من للتبعيض، أي: ما يودون أن يُنَزَّل من الخير قليل ولا كثير، فعلى هذا يكون القائم مقام الفاعل: {عليكم}، والمعنى: أن ينزل عليكم بخير من الخُيُور.
قوله: {مِنْ رَبِّكُمْ} في {من} أيضًا قولان:
أحدهما: أنها لابتداء الغاية، فتتعلّق ب {ينزّل}.
والثاني: أنها للتبعيض، ولابد حينئذ من حّذْف مضاف تقديره: من خُيُور ربّكم، وتتعلق حينئذ بمحذوف، لأنها ومجرورها صفة لقوله: {من خير} أي: من خير كائن من خُيُور ربكم، ويكون في محلّها وجهان:
الجر على اللفظ، والرفع على الموضع، لأن {من} زائدة في {خير}، فهو مرفوع تقديرًا لقيامه مقام الفاعل كما تقدم.
وتلخص مما تقدم أن في كل واحدة من لفظ ممن قولين:
الأول: قيل: إنها للتبعيض، وقيل: أو لبيان الجنس.
وفي الثانية قولان: زائدة أو للتعبيض.
وفي الثالثة: أيضًا قولان: لابتداء الغاية، أو التبعيض.
قوله: {واللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} هذه جملة ابتدائية تضمنت ردّ وَدادَتهم ذلك.
و{يختص} يحتمل أن يكون متعديًا، وأن يكون لازمًان فإن كانت متعديًا كان فيه ضمير يعود على الله تعالى، وتكن {من} مفعولًا به أي يختص الله الذي يشاؤه برحْمته، ويكون معنى افتعل هنا معنى المجرد نحو: كسب مالًا واكتسبه، وإن كان لازمًا لم يكن فيه ضمير، ويكون فاعله {من} أي: والله يختصّ برحمته الشَّخً الذي يشاؤه، ويكون افتعل بمعنى الفاعل بنفسه نحو: اضطراب، والاختصاص ضد الاشتراك، وبهذا يتبين فساد قول من زعم أنه هنا متعدّ ليس غلاّ.
و{مَنْ} يجوز أن تكون موصولة أو موصوفة، وعلى كلا التقديرين فلابد من تقدير عائد، أي: يشاء اختصاصه.
ويجوز أن يمضن {يشاء} معنى يختار، فحينئذ لا حاجة إلى حَذْف مضاف، بل تقدره ضميرًا فقط أي: يشاؤه، و{يشاء} على القول الأول لا محلّ له لكونه صلةً، وعلى الثاني محلّه النَّصب، أو الرفع على حسب ما ذكر في موصوفه من كونه فاعلًا أو مفعولًا. اهـ.

.تفسير الآية رقم (106):

قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما حرم سبحانه قوله: {راعنا} بعد حله وكان ذلك من باب النسخ وأنهى ما يتعلق به بالوصف بالفضل العظيم بعد التخصيص الذي من مقتضاه نقل ما يكون من المنافع من ملك أو دين أو قوة أو علم من ناس إلى ناس، وكان اليهود يرون أن دينهم لا ينسخ، فكان النسخ لذلك من مطاعنهم في هذا الدين وفي كون هذا الكتاب هدى للمتقين، لأنه على زعمهم لا يجوز على الله، قالوا: لأنه يلزم منه البدا- أي بفتح الموحدة مقصورًا- وهو أن يبدو الشيء أي يظهر بعد أن لم يكن، وذلك لا يجوز على الله تعالى، هذا مع أن النسخ في كتابهم الذي بين أظهرهم، فإن فيه أنه تعالى أمرهم بالدخول إلى بيت المقدس بعد مقاتلة الجبارين، فلما أبوا حرم عليهم دخولها ومنعهم منه ومن القتال بالقدرة والأمر، كما ستراه عن نص التوراة في سورة المائدة إن شاء الله تعالى، وأمرهم بالجمعة فاختلفوا فيه، كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ويأتي في قوله تعالى: {إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه} [النحل: 124] واختاروا السبت، ففرض عليهم وشدد عليهم فيه وأحل لهم جميع اللحوم والشحوم، لما اتخذوا العجل حرم عليهم الشحوم؛ وأعظم من ذلك تعاطيهم من النسخ ما لم يأذن به الله في تحريفهم الكلم عن مواضعه، وتحريم الأحبار والرهبان وتحليلهم لهم ما شاءوا من الأحكام التي تقدم عد جملة منها أصولًا وفروعًا، كما قال تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله} [التوبة: 31]، ولما قال عدي بن حاتم للنبي صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله! إنهم لم يكونوا يعبدونهم، قال: أليسوا يحلون لهم ويحرمون؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم لهم» كما هو مبين في السيرة في وفادة عدي؛ وكما فعلوا في إبدال الرجم في الزنا بالتحميم والجلد؛ وفي اتباع ما تتلو الشياطين مع أن فيه إبطال كثير من شرعهم؛ وفي نبذ فريق منهم كتاب الله؛ وفي قولهم: {سمعنا وعصينا} [البقرة: 93]، وفي اتخاذهم العجل مع النهي عن ذلك- وكل ما شاكله في كثير من فصول التوراة وفيما أشير إليه بقوله: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} [البقرة: 85] إلى غير ذلك، لما كان ذلك قال تعالى جوابًا عن طعنهم سابقًا له في مظهر العظمة معلمًا أنه قد ألبس العرب المحسودين ما كان قد زين به أهل الكتاب دهورًا فابتذلوه ودنسوا محياه ورذلوه وغيروه وبدّلوه إشارة إلى أن الحسد لكونه اعتراضًا على المنعم يكون سببًا لإلباس المحسود ثوب الحاسد:
{ما ننسخ} والنسخ قال الحرالي: نقل بادٍ من أثر أو كتاب ونحوه من محله بمعاقب يذهبه.
أو باقتباس يغني عن غيبته وهو وارد الظهور في المعنيين في موارد الخطاب؛ والمعاقبة في هذا أظهر. انتهى.
وساقها بغير عطف لشدة التباسها بما قبلها لاختصاصنا لأجل التمشية على حسب المصالح بالفضل والرحمة، لأنه إن كان المراد نسخ جميع الشرائع الماضية بكتابنا فلما فيه من التشريف بالانفراد بالذكر وعدم التبعية والتخفيف للأحمال التي كانت، وإن كان المراد نسخ ما شرع لنا فللنظر في المصالح الدنيوية والأخروية بحسب ما حدث من الأسباب {من آية} أي فنرفع حكمها، أو تلاوتها بعد إنزالها، أو نأمر بذلك على أنها من النسخ على قراءة ابن عامر، سواء كانت في شرع من قبل كاستقبال بيت المقدس أو لم تكن؛ وفي صيغة نفعل إشعار بأن من تقدم ربما نسخ عنهم ما لم يعوضوا به مثلًا ولا خيرًا، ففي طيه ترغيب للذين آمنوا في كتابهم الخاص بهم وأن يكون لهم عند النسخ حسن قبول فرحًا بجديد أو اغتباطًا بما هو خير من المنسوخ، ليكون حالهم عند تناسخ الآيات مقابل حال الآبين من قبوله المستمسكين بالسابق المتقاصرين عن خير لاحق وجدِّته- قاله الحرالي: {أو ننسأها} أي نؤخرها، أي نترك إنزالها عليكم أصلًا، وكذا معنى {أو نُنسها} من أنسى في قراءة غير ابن كثير وأبي عمرو، أي نأمر بترك إنزالها {نأت بخير منها أو مثلها} كما فعلنا في {راعنا} وغيرها.
أو يكون المعنى {ما ننسخ من آية} فنزيل حكمها أو لفظها عاجلًا كما فعلنا في {راعنا} أو {ننسأها} بأن نؤخر نسخها أو نتركه- على قراءة {ننسها} زمنًا ثم ننسخها كالقبلة {نأت} عند نسخها {بخير منها أو مثلها}، وقال الحرالي: وهو الحق إن شاء الله تعالى.
والنسء تأخير عن وقت إلى وقت، ففيه مدار بين السابق واللاحق بخلاف النسخ، لأن النسخ معقب للسابق والنسء مداول للمؤخر، وهو نمط من الخطاب عليٌ خفي المنحى، لم يكد يتضح معناه لأكثر العلماء إلا للأئمة من آل محمد صلى الله عليه وسلم لخفاء الفرقان بين ما شأنه المعاقبة وما شأنه المداولة.
ومن أمثاله ما وقع في النسء من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الأضاحي فتقبله الذين آمنوا نسخًا، وإنما كان إنساء وتأخيرًا لحكم الاستمتاع بها بعد ثلاث إلى وقت زوال الدافّة التي كانت دفت عليهم من البوادي، فلم يلقن ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى فسره فقال: «إنما نهيتكم من أجل الدافة»، ففي متسع فقهه أن أحكامًا تؤخر فتشابه النسخ من وجه ثم تعاد فتخالفه من هذا الوجه من حيث إن حكمة المنسوخ منقطعة وحكمة المنَسء متراجعة.
ومنه المقاتلة للعدو عند وجدان المنة والقوة والمهادنة عند الضعف عن المقاومة هو من أحكام المنسء، وكل ما شأنه أن يمتنع في وقت لمعنى مّا ثم يعود في وقت لزوال ذلك المعنى فهو من المنَسء الذي أهمل علمه أكثر الناظرين وربما أضافوا أكثره إلى نمط النسخ لخفاء الفرقان بينهما؛ فبحق أن هذه الآية من جوامع آي الفرقان، فهذا حكم النسء والإنساء وهو في العلم بمنزلة تعاقب الفصول بما اشتملت عليه من الأشياء المتعاقبة في وجه المتداولة في الجملة.
قلت: وحاصله تأخير الحل كما ذكر أو الحرمة كما في المتعة ونحو ذلك إلى وقت آخر وذلك هو مدلول النسء على ما كانت العرب تتعارفه كما سيأتي تحريره في سورة براءة عند {إنما النسيء زيادة في الكفر} [التوبة: 37] قال: وأما النسيان والتنسية فمعناه أخفى من النسيء وهو ما يظهره الله من البيانات على سبيل إدخال النسيان على من ليس شأنه أن ينسء كالسنن التي أبداها النبي صلى الله عليه وسلم عن تنسيته كما ورد من قوله: إني لأُنَسَّى لأسُنَّ.
وقال عليه الصلاة والسلام في إفصاح القول فيه: «بئسما لأحدكم أن يقول: نسيت، بل هو نُسي» ومنه قيامه من اثنتين وسلامه من اثنتين حتى أظهر الله سنة ذلك لأمته، وكانت تلك الصلاة بسهوها ليست بدونها من غير سهو بل هي مثلها أو خير؛ ومن نحوه منامه عن الصلاة حتى أظهر الله توقيت الصلاة بالذكر كما كان قد أظهرها بالوقت الزماني، فصار لها وقتان: وقت نور عياني من مدارها مع الشمس، ووقت نور وجداني من مدارها مع الذكر، ولصحة وقوعها للوقتين كانت الموقتة بالذكر أداء بحسبه، قضاء بحسب فوت الوقت الزماني؛ فللّه تعالى على هذه الأمة فضل عظيم فيما يكمل لها على طريق النسخ وعلى سبيل النسء وعلى جهة النسيان الذي ليس عن تراخ ولا إهمال وإنما يوقعه إجبارًا مع إجماع العزم، وفي كل ذلك إنباء بأن ما وقع من الأمر بعد هذا النسيان خير من موقع ذلك الأمر الذي كان يقع على إجماع ورعاية لتستوي أحوال هذه الأمة في جميع تقلبات أنفسها، كل ذلك من اختصاص رحمته وفضله العظيم. انتهى.
واستدل سبحانه على إتيانه بذلك بقدرته، والقدرة الشاملة التامة مستلزمة للعلم أي وليس هو كغيره من الملوك إذا أمر بشيء خاف غائلة أتباعه ورعاياه في نقضه، واستدل على القدرة بأن له جميع الملك وأنه ليس لأحد معه أمر، وحاصل ذلك أنه لما ذكر سبحانه هذا الكتاب وأكد أمره مرارًا وكان ناسخًا لفروع شريعتهم ولاسيما ما فيها من الآصار والأغلال أشار سبحانه إلى أن من أعظم ضلالهم وغيهم ومحالهم، ادعاؤهم أن النسخ لا يجوز على الله، فمنعوا من {لا يسأل عما يفعل} [الأنبياء: 23] مما هو موجود في كتابهم كما أمر آنفًا، ومما سوغوه لأنفسهم بالتحريف والتبديل، ولزم من ذلك تكذيب كل رسول أتاهم بما لا تهوى أنفسهم، وفعلوا خلاف حال المؤمنين المصدقين بما أنزل إلى نبيهم وما أنزل إلى غيره، وضمن ذلك عيبهم بالقدح في الدين بالأمر بالشيء اليوم والنهي عنه غدًا، وأنه لو كان من عند الله لما تغير لأنه عالم بالعواقب، ولا يخلو إما أن يعلم أن الأمر بذلك الشيء مصلحة فلا ينهى عنه بعدُ، أو مفسدة فلا يأمر به اليوم، جوابهم عن ذلك معرضًا عن خطابهم تعريضًا بغباوتهم إلى خطاب أعلم الخلق بقوله: {ألم تعلم أن الله} أي الحائز لجميع أوصاف الكمال {على كل شيء قدير} على وجه الاستفهام المتضمن للإنكار والتقرير المشار فيه للتوعد والتهديد، فيخلق بقدرته من الأسباب ما يصير الشيء في وقت مصلحة وفي وقت آخر مفسدة لحكم ومصالح دبرها لتصرم هذا العالم.
ويقضي هذا الكون بشمول علمه بكل ما تقدم وما تأخر.
ولو أراد لجعل الأمر على سنن واحد والناس على قلب رجل واحد {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا} [يونس: 99] {لجعل الناس أمة واحدة} [هود: 118] ولكنه مالك الملك وملك السماوات والأرض، يتصرف على حسب ما يريد، لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، ولا يسوغ الاعتراض عليه بوجه، وهل يجوز أن يعترض العبد الذي لا ينفك أصلًا من الرق على السيد الثابت السودد على أنه لا يلزمه شيء أصلًا فلا يلزمه الأمر على حسب المصالح. اهـ.